تُعدّ أمراض الغدة الدرقية من أكثر اضطرابات الغدد الصماء شيوعًا على مستوى العالم، وتشمل طيفًا واسعًا من الحالات المرضية مثل فرط نشاط الغدة الدرقية، قصور الغدة الدرقية، العقيدات الدرقية، وسرطان الغدة الدرقية. وخلال العقود الأخيرة، أصبح العلاج بالمواد المشعة أحد أهم إنجازات الطب النووي، لما له من دور محوري في تشخيص وعلاج هذه الأمراض.
يعتمد هذا الأسلوب العلاجي على الخصائص الفريدة لخلايا الغدة الدرقية في امتصاص اليود، مما يتيح علاجًا موجّهًا وفعّالًا وآمنًا نسبيًا، ويُعد في كثير من الحالات بديلاً مناسبًا للجراحة أو للعلاج الدوائي طويل الأمد.
دور الغدة الدرقية وأهمية العلاج الموجّه
تقع الغدة الدرقية في مقدمة الرقبة، وتؤدي دورًا أساسيًا في تنظيم عمليات الأيض في الجسم، والنمو، ومعدل ضربات القلب، ودرجة حرارة الجسم، ووظائف الجهاز العصبي. ويؤدي أي خلل في وظائفها إلى ظهور أعراض متعددة مثل:
-
خفقان القلب
-
زيادة أو نقصان الوزن
-
القلق أو الاكتئاب
-
عدم تحمّل الحرارة أو البرودة
-
التعب المزمن
لذلك فإن التشخيص والعلاج المبكر لأمراض الغدة الدرقية أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الصحة العامة.
ما هو العلاج بالمواد المشعة؟
العلاج بالمواد المشعة للغدة الدرقية، المعروف باسم العلاج باليود المشع (Radioactive Iodine Therapy)، يُعد من أهم طرق العلاج في الطب النووي. ويُستخدم فيه نظير اليود المشع يود-131 (I-131).
تمتلك خلايا الغدة الدرقية القدرة الطبيعية على امتصاص اليود لإنتاج الهرمونات الدرقية، ويستغل العلاج باليود المشع هذه الخاصية، حيث يدخل اليود المشع إلى الخلايا الدرقية ويُصدر إشعاعات بيتا تؤدي إلى تدمير انتقائي للخلايا المريضة مع الحفاظ على سلامة الأنسجة الأخرى إلى حد كبير.
الاستخدامات الرئيسية للعلاج باليود المشع
يُستخدم العلاج بالمواد المشعة في عدة أمراض درقية، من أبرزها:
1. علاج فرط نشاط الغدة الدرقية
يُعد فرط نشاط الغدة الدرقية من أكثر الاستطبابات شيوعًا للعلاج باليود المشع، وقد يكون ناتجًا عن:
-
داء غريفز
-
الدراق العقدي السام
-
الورم الغدي السام
يساعد اليود المشع على تقليل نشاط الخلايا الدرقية المفرطة، مما يؤدي إلى عودة مستويات الهرمونات إلى المعدل الطبيعي.
2. علاج سرطان الغدة الدرقية
في سرطانات الغدة الدرقية المتمايزة مثل:
-
السرطان الحليمي
-
السرطان الجريبي
يلعب العلاج باليود المشع دورًا أساسيًا بعد الجراحة، حيث يُستخدم من أجل:
-
القضاء على بقايا النسيج الدرقي
-
علاج النقائل المجهرية
-
تقليل خطر عودة المرض
وقد أثبت هذا العلاج فعاليته في تحسين معدلات البقاء على قيد الحياة.
3. علاج تضخم الغدة الدرقية (الدراق)
في بعض المرضى المصابين بتضخم الغدة الدرقية الكبير أو الدراق السام والذين لا يُعدّون مرشحين مناسبين للجراحة، يمكن للعلاج بالمواد المشعة أن يؤدي إلى تقليص حجم الغدة وتخفيف الأعراض الضاغطة.
مراحل إجراء العلاج باليود المشع
يُجرى العلاج باليود المشع غالبًا بشكل علاجي بسيط أو مع إقامة قصيرة في المستشفى، ويشمل الخطوات التالية:
-
التقييم السريري والمخبري للمريض
-
إيقاف بعض أدوية الغدة الدرقية قبل العلاج
-
اتباع حمية غذائية منخفضة اليود قبل الإجراء
-
تناول اليود المشع عن طريق الفم (كبسولة أو سائل)
-
الالتزام بتعليمات السلامة بعد العلاج
التعليمات والاحتياطات بعد العلاج
بعد تلقي العلاج باليود المشع، يُنصح باتباع بعض الإرشادات لتقليل تعرّض الآخرين للإشعاع، مثل:
-
تجنّب المخالطة القريبة للأطفال والحوامل لفترة محددة
-
الإكثار من شرب السوائل
-
الالتزام بالنظافة الشخصية
-
استخدام مرحاض منفصل إن أمكن
وغالبًا ما تكون هذه الاحتياطات مؤقتة وقصيرة الأمد.
مزايا العلاج بالمواد المشعة لأمراض الغدة الدرقية
يمتاز هذا العلاج بعدة فوائد تجعله خيارًا مفضلًا في كثير من الحالات:
-
غير جراحي ولا يحتاج إلى تخدير
-
علاج موجّه ودقيق
-
نسبة منخفضة من الآثار الجانبية
-
فعالية عالية
-
تقليل الحاجة إلى الإجراءات التداخلية
الآثار الجانبية المحتملة
رغم أمان العلاج، قد تظهر بعض الأعراض الجانبية الخفيفة والمؤقتة، مثل:
-
ألم أو حساسية في الرقبة
-
جفاف الفم
-
تغيّر مؤقت في حاسة التذوق
-
قصور الغدة الدرقية، والذي يمكن التحكم به دوائيًا
وغالبًا ما تفوق فوائد العلاج هذه التأثيرات المحتملة.
سلامة العلاج باليود المشع
أثبتت الدراسات أن العلاج باليود المشع:
-
لا يزيد بشكل ملحوظ من خطر الإصابة بالسرطانات الثانوية
-
لا يؤثر سلبًا على الخصوبة على المدى الطويل
-
يُعد آمنًا للمحيطين بالمريض عند الالتزام بالتعليمات
ولذلك يُستخدم على نطاق واسع في المراكز الطبية حول العالم.
دور الطب النووي في متابعة مرضى الغدة الدرقية
لا يقتصر دور الطب النووي على العلاج فقط، بل يشمل أيضًا متابعة المرضى وتقييم الاستجابة للعلاج من خلال:
-
المسح الدرقي
-
قياس مؤشرات مثل الثيروغلوبولين
-
الكشف المبكر عن عودة المرض
مقارنة العلاج باليود المشع مع الجراحة
في العديد من الحالات، يتميز العلاج بالمواد المشعة عن الجراحة بأنه:
-
أقل خطورة
-
أقل تكلفة
-
لا يسبب مضاعفات جراحية مثل أذية العصب الحنجري
لذلك يُعد خيارًا أوليًا للعلاج إلا في حالات محددة.
متى لا يُنصح بالعلاج بالمواد المشعة؟
يُمنع أو يُستخدم بحذر في الحالات التالية:
-
الحمل
-
الإرضاع
-
بعض الأنواع النادرة غير المتمايزة من سرطان الغدة الدرقية
ويُتخذ القرار النهائي بناءً على تقييم الطبيب المختص في الطب النووي.
الخلاصة
يُعد العلاج بالمواد المشعة في أمراض الغدة الدرقية من أنجح وأكثر العلاجات دقة وأقلها تدخلاً في مجال الطب النووي. وقد أتاح هذا الأسلوب العلاجي، بفضل خاصية امتصاص اليود من قبل الخلايا الدرقية، إمكانية علاج فعّال وموجّه لحالات فرط النشاط، وسرطان الغدة الدرقية، وتضخمها.
وبفضل فعاليته العالية، وأمانه النسبي، وانخفاض آثاره الجانبية، أصبح العلاج باليود المشع أحد الأعمدة الأساسية في علاج أمراض الغدة الدرقية في الممارسة الطبية الحديثة.


